التحليل الأساسي
سيكون من المفيد حقاً التعرف على قائمة مختصرة بالعوامل الأساسية التي يضعها متداولي الفوركس المحترفين نصب أعينهم عند اتخاذ قرارات التداول. ولكن ربما تكمن المشكلة في عدم وجود مثل هذه القائمة من الأساس، أو على الأقل عدم وجود قائمة يمكن الاعتماد عليها لفترة طويلة. تتغير قائمة العوامل الهامة بصفة مستمرة بحسب أهمية كل عنصر وترتيبه في قائمة أولويات المستثمرين في لحظة معينة.
السبب في هذه الحالة المربكة يتمثل في عدم وجود نظرية موحدة أو متماسكة لتحديد أسعار الصرف. وضع علماء الاقتصاد الأكاديميون نظرية شاملة لتفسير سعر الصرف ولكنهم تركوا تحديد سعر الصرف ذاته مطية لأهواء السوق، والذي يسير دائماً خلف بعض الجالسين في برجهم العاجي يكتبون ما يرون أنه هو الحقيقة. هذا الانفصال بين النظرية والتطبيق يصل منتهاه في سوق الفوركس مقارنة مع باقي الأسواق الأخرى. ستجد على الأقل في أسواق الأسهم والسلع صورة واضحة عن العوامل المحركة للعرض والطلب، بينما ستكون مهمتك أكثر صعوبة في سوق الفوركس.
فشل النظرية رقم 1 – تعادل القوة الشرائية
سيتعين علينا البدء مع قانون "السعر الواحد"، والذي يطلق عليه أيضاً تعادل القوة الشرائية. ينص هذا المفهوم على أن العملة ’أ‘ يجب أن تتداول في وضع التوازن مع العملة ’ب‘ عند سعر الصرف الذي يحقق التعادل بين التدفقات التجارية والاستثمارية. إذا عانت العملة ’أ‘ من ارتفاع التضخم فإن هذا سيجعل من سلعها أكثر تكلفة بالنسبة للمشترين في بلد العملة ’ب‘ وبالتالي سوف تنخفض صادراتها ما يفضي في نهاية المطاف إلى عجز الميزان التجاري. في نهاية المطاف، سيفضل المستثمرون والمصرفيون عدم تمويل ارتفاع هذا العجز وبالتالي ستضطر البلد ’أ‘ إلى استخدام احتياطياتها لتمويل الواردات. وفي ظل أسعار الصرف الثابتة، ستضطر البلد ’أ‘ إلى خفض قيمة عملتها لاستعادة ميزتها التنافسية في مجال التبادل التجاري. تنطبق هذه الحالة على معظم عملات الأسواق الناشئة والتي تتداول عملاتها عادةً وفق نظام سعر الصرف الثابت أو التعويم المدار.
في ظل أسعار الصرف الحرة، وهو النظام المطبق في معظم الاقتصادات الكبرى اليوم، لن يواصل المستثمرون والبنوك تمويل عجز الميزان التجاري إلا إذا حصلوا على تعويض مناسب في شكل معدلات عائد مرتفعة للغاية (أسعار الفائدة). تؤثر معدلات العائد المرتفعة على الاقتصاد المحلي في البلد ’أ‘ حيث تؤدي إلى خنق الطلب وزيادة التضخم. وفي نهاية المطاف، ستعود سلة السلع في البلد ’أ‘ إلى وضع التكافؤ السعري مع نفس السلة من السلع في البلد ’ب‘.
يطلق على هذه النظرية تعادل القوة الشرائية وهي تقدم مفهوم منطقي وقابل للتطبيق. تنشر مجلة الإيكونوميست كل عام جدول مقارنة القوة الشرائية لوجبة البيج ماك والتي تظهر القيمة التي يجب أن تساويها العملات مقابل الدولار الأمريكي لتحقق التوازن في سعر وجبة البيج ماك (وجبة ماكدونالدز الشهيرة المكونة من شطائر لحم البقر) في 80 بلد. يمكنك رؤية عملات البلدان المقومة بأعلى أو بأقل من قيمتها الحقيقية في مقابل أربعة عملات رئيسية (الدولار، الجنيه الإسترليني، اليورو والين) وكذلك أمام اليوان الصيني.
تتلخص الفكرة على النحو التالي: إذا كان سعر وجبة البيج ماك أعلى في البلد ’أ‘، فهذا يشير إلى أن عملتها مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية. أما إذا كانت تكلفة الوجبة أقل في هذا البلد، فإن تلك إشارة على أن عملتها مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية. سترى في كثير من الأحيان أن العملة المبالغ في قيمتها قد انخفضت في العام التالي والعكس صحيح بالنسبة للعملة المقومة بأقل من قيمتها. تقوم المنظمات الدولية مثل البنك الدولي بحساب تعادلات القوة الشرائية، وهو ما تقوم به أيضاً بعض البنوك الكبرى. تواظب المفوضية الأوروبية أيضاً على اقتفاء القوة الشرائية لتتبع مدى تقارب الأسعار في بلدانها الأعضاء كهدف رئيسي.
تكمن المشكلة الأساسية في نظرية تعادل القوة الشرائية في أن التوازن المرجو ليس سوى خيال في عقول أصحابه. لا يصل الاقتصاد أبداً إلى حالة من التوازن، فهو بالأساس وضع لا يمكن إدراكه في العالم الحقيقي. السبب في ذلك هو أن كل بلد تتمتع بميزات تنافسية مختلفة وبالتالي سترتفع أو تنخفض تكلفة بعض السلع أو الخدمات من وقت لآخر. على سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة دائماً إنتاج الحبوب بتكلفة أقل من اليابان بفضل مزارعها الضخمة ووفورات الحجم التي يمكن تحقيقها هناك. بالمثل، تتمتع الاقتصادات الناشئة في آسيا، بما في ذلك الصين، بانخفاض تكاليف العمالة في صناعات النسيج وبعض المجالات الأخرى. سيستغرق الوصول إلى حالة التوازن عقود طويلة، هذا إن كان بالإمكان الوصول إليها من الأساس. لهذا ستجد أن بعض البلدان تسيطر على صناعات بعينها مثل تصنيع الشامبانيا في فرنسا والآلات الصناعية والهندسية الدقيقة في ألمانيا، حتى وإن كان هذا الوضع قد يتغير من وقت لآخر. على سبيل المثال، يعود الفضل إلى الولايات المتحدة في اختراع صناعة السيارات والتي بلغت ذروتها في عقد الستينات، ولكن ستلاحظ اليوم أن إنتاج ألمانيا من السيارات يفوق الولايات المتحدة حتى برغم أن عدد سكانها لا يتجاوز ربع سكان الولايات المتحدة. ستكتشف أيضاً صعوبة في إيجاد علاقة بين تغير الوزن النسبي لكلاً من الولايات المتحدة وألمانيا في صناعة السيارات وسعر الصرف حيث أن سعر صرف العملة الألمانية، سواء المارك أو اليورو، كان دائماً يسير في اتجاه صاعد ومع ذلك ارتفع إنتاجها من السيارات. وفق نظرية تعادل القوى الشرائية، كان من المفترض ألا تحدث هذه الطفرة في الصادرات الألمانية.
وعلاوة على ذلك، نحن لا نعرف على وجه التحديد ما الذي نقيسه بالضبط. بعبارة أخرى، ما هي سلة السلع النموذجية؟ تختلف سلة السلع الخاصة بشركة صناعية متوسطة أو تلك التي تستهلكها الأسر في اليابان عن نظيرتها في فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة. أيضاً فإن أي محاولة لخلق تقارب بين هذه السلال سيشوبها العديد من العيوب الواقعية مثل الاختلاف في الجودة. على سبيل المثال، تشهد الولايات المتحدة عودة الاهتمام بالسلع الحرفية والمنتجات المصنعة محلياً من الصابون المطحون إلى المنسوجات اليدوية. في سياق آخر، يؤمن اليابانيون أن الأرز المزروع محلياً يمتلك مواصفات لا يمكن أن تتوافر في الأرز الأمريكي أو أي نوع آخر. في هذه الحالة تأتي الجودة في مرتبة متأخرة لهذه العوامل.
ويتمثل أحد العوامل الأخرى في صعوبة تبادل الخدمات عبر الحدود. على سبيل المثال، وجبات المطاعم، حلاقة الشعر، قص الأعشاب وغيرها من الخدمات تظل مقتصرة على الاقتصاد المحلي ولا يمكن تخيل استيرادها من الخارج. لاحظ أن هذه الخدمات تشكل أكثر من 65% من الاقتصاد الأمريكي. وبالتالي لن يؤثر ارتفاع الدولار أو انخفاضه على الرواتب أو التكاليف الأخرى لإنتاج هذه النوعية من الخدمات.
وأخيراً، حققت اليابان فائض في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة وبقية العالم لأكثر من ثلاثة عقود، وحتى وقت قريب، وبرغم ذلك ارتفع سعر صرف USD/JPY من 300 ين إلى نحو 100 ين منذ عام 1995. كان من المفترض أن يشير هذا الفائض التجاري إلى أن تصخم قيمة الين بشكل غير واقعي، والذي برغم ذلك واصل ارتفاعاته بصورة مطردة ولم يتراجع في أي وقت. الفشل في إحداث توازن الميزان التجاري أو سعر صرف العملات مثل فشل كبير لنظرية تعادل القوى الشرائية عند تطبيقها في العالم الحقيقي.
هل يهتم المتداولون حقاً بتعادل القوة الشرائية؟ كلا. وبرغم أن الأمر قد يثير الفضول ولكننا نشك كثيراً في أن هناك من يلجأ إلى التداول استناداً إلى مؤشر البيج ماك. برغم ذلك، دعنا نذكر إحدى المساهمات الهامة التي أدخلت مؤخراً على هذا المؤشر. في فبراير 2014، أضافت مجلة الإيكونوميست الدونج الفيتنامي الى قائمة عملات المقارنة.
فيما يلي ما قالته المجلة عن الدونج:
بالنظر إلى أن سعر وجبة البيج ماك كان يبلغ 60,000 دونج، أو 2.84$ وفق أسعار صرف السوق، مقارنة مع 4.62$ في الولايات المتحدة، كان المؤشر يرى أن الدونج بتداول أقل بنسبة 39% من قيمته الحقيقية أمام الدولار الأمريكي. حافظت العملة الفيتنامية، والتي ترتبط ارتباط وثيق بالدولار الأمريكي، على استقرارها منذ يونيو بعد قرار البنك المركزي بخفض قيمة الدونج بنسبة 1% أمام الدولار بزعم تحسين ميزان المدفوعات. ساعد إبقاء سعر الصرف عند معدلات منخفضة على دعم الصادرات الفيتنامية وهو ما أسهم في عودة الميزان التجاري للبلاد إلى تحقيق فائض في 2012. تحسن العوامل الاقتصادية كان من المفترض أن يقدماً دعماً للعملة الفيتنامية خصوصاً مع انخفاض التضخم من نحو 30% في 2008 ليتراوح ما بين 5-6%.
خلال العام الماضي، ارتفع عجز الميزان التجاري لفيتنام مع الصين، والتي تعد أكبر شركائها التجاريين، بنسبة 45%. وبالتالي، وفق حسابات المؤشر يعتبر الدونج حالياً مقوم بأعلى من قيمته الحقيقية أمام اليوان الصيني بنسبة 4%.
يبدو هذا المزيج مربكاً إلى حد كبير حيث يرى المؤشر أن هناك مبالغة في تقييم الدونج أمام الدولار (وهو ما يساعد في زيادة الصادرات إلى الولايات المتحدة) ولكنه مقوم بأقل من قيمته أمام اليوان الصيني والذي أدى إلى ظهور عجز في ميزان التبادل التجاري مع الصين. ما هو الشيء الذي سنحتاج إلى معرفته؟ إذا كان اليوان مقوم بأقل من قيمته بنسبة 41%، فإن هذا سيدفعنا إلى التساؤل عن الاتجاه الذي يسلكه زوج الدولار الأمريكي مقابل اليوان الصيني؟ اتخذ هذا الزوج مسار هبوطي منذ فبراير 2014 حيث واصل اليوان الارتفاع أمام العملة الأمريكية. ولكن خلال فبراير ومارس 2014، قررت الحكومة الصينية تحرير سعر الصرف بشكل جزئي في كلا الاتجاهين (أي السماح بارتفاع وانخفاض قيمة العملة)، كما زادت من نطاق التغير المسموح به. وفق نظرية تعادل القوة الشرائية، من المفترض أن تلجأ الحكومة الفيتنامية إلى تخفيض قيمة الدونج بوتيرة أسرع من تخفيض الصين لقيمة اليوان بهدف معالجة العجز التجاري مع بكين، وذلك حتى برغم تحقيق فائض كبير في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة والانخفاض الكبير في معدلات التضخم، أي لا يوجد مبرر لتخفيض لقيمة الدونج أمام الدولار. بعبارة أخرى، أصبح الصينيون بحق صداع لا ينتهي في رأس المسئولين عن الاقتصاد الفيتنامي.
يمكنك أن تستنتج من هذا المثال أن نظرية تعادل القوة الشرائية ستكون أكثر فائدة عند تقييم عملات الأسواق الناشئة والنامية مقارنة مع عملات الاقتصادات المتقدمة، وهذا رأي صائب بالفعل. إذا كنت تخطط لتداول هذه العملات فمن المقبول إتباع الدراسات المعنية بتعادل القوى الشرائية، ولكن لن يجدي نفعاً استخدام هذه النظرية عند تداول العملات الرئيسية.
النظرية غير المكتملة رقم 2 – أسعار الفائدة النسبية
هناك افتراض آخر يطرحه الأكاديميون ولكن لا يلقى قبول واسع بين المتداولين ويتلخص في أن أسعار الفائدة، أو العائد على الأموال، ستكون "بطبيعة الحال" متساوية في أي مكان. إذا كانت تكلفة الحصول على الأموال مرتفعة في بلد ما، فإن هذا سيعزى إلى أن المستثمرون الدوليون يتوقعون انخفاض قيمة عملة هذا البلد أمام العملات الأخرى وهو ما سيؤدي إلى استعادة التوازن، أو هكذا تزعم النظرية. في هذه الحالة يجب أن تتساوى الفائدة الأساسية في البلد ’أ‘ دائماً مع نظيرتها في البلد ’ب‘، وهذا هو ما يطلق عليه نظرية تعادل سعر الفائدة.
يبدو افتراض بعض علماء الاقتصاد بأن الغرض الرئيسي من تدفقات رؤوس الأموال عبر الحدود هو إحداث التوازن بين أسعار الصرف أمرأ يثير السخرية في بعض جوانبه. في واقع الأمر، يسعى المستثمرون الدوليون إلى تحقيق عائدات أعلى من العمل في الأسواق الخارجية حتى برغم إدراكهم بأن هذه التدفقات قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير سعر الصرف في غير صالحهم. السبب في الزعم بخطأ افتراض تعادل أسعار الفائدة يكمن في تجاهل المخاطرة النسبية في كل سوق، حيث أن تحليل المخاطر يأخذ في اعتباره العديد العوامل الأخرى مثل التنوع وتفضيلات السيولة. الأسباب التي تجعل من الولايات المتحدة وجهة مفضلة للمستثمرين لا تقتصر على حجم الاقتصاد وسيادة القانون، بل تشمل أيضاً الحجم الهائل للأسواق فضلاً عن تنوع الأدوات الاستثمارية والمخاطر المرتبطة بكل منها.
من الواضح أن فكرة موازنة أسعار الفائدة لن تكون كافية لإثارة حماس المستثمرين، ولكن تظل النظرية صالحة على الأقل في بعض الأوقات. إذا بقيت جميع العوامل الأخرى على حالها (مثل معدلات النمو والتضخم)، فسوف يؤدي رفع سعر الفائدة في البلد ’أ‘ مقارنة مع سعر الفائدة في البلد ’ب‘ إلى دفع العملة ’أ‘ إلى التراجع وهو ما سيبقي المعدل الإجمالي للعائد متساوياً بشكل أو بآخر عند الأخذ في الاعتبار التأثيرات الناجمة عن تغيرات سعر الصرف. من الناحية التاريخية، سنلاحظ وجود فترات طويلة من اختلاف أسعار الفائدة المرتبطة ببعض أزواج العملات. هل تتذكر التناقض بين نظرية تعادل القوى الشرائية وزوج USD/JPY؟ يمكن حل هذا التناقض عند النظر على منحنى الاختلاف في سعر الفائدة للسندات اليابانية/الأمريكية لأجل 10 سنوات مقارنة مع سعر صرف USD/JPY. معامل الارتباط في هذه الحالة كان مرتفعاً للغاية وهو ما ينطبق أيضاً على العلاقة بين أزواج GBP/USD و EUR/USD وغيرها من أزواج العملات الرئيسية.
أحد الألغاز المثيرة في العصر الحديث، والذي يكتظ بفيض هائل من المعلومات، أن لا أحد يقدم على نشر الاختلافات بين أسعار الفائدة كسلسلة من البيانات القائمة بذاتها. يمكنك بالطبع الحصول على أسعار الفائدة لجميع آجال استحقاق السندات الخاصة بكل بلد ولكن سيتعين عليك إجراء المقارنات بنفسك.
أحد الافتراضات التي تساعد على تنقيح نظرية تعادل الفائدة هو اللجوء إلى العائد على السندات لأجل 10 سنوات باعتباره المؤشر الحقيقي لسعر الفائدة في الأوقات الهادئة. أما في حالات الاضطراب الاقتصادي، مثل الأزمة المالية العالمية 2007-2008، يصبح الاختلاف بين عوائد السندات لأجل عامين هو المؤشر الأكثر تفضيلاً.
الاختلاف في النوع – تجارة الكاري تريد
من الضروري الانتباه إلى أن العوامل المفسرة للعلاقات بين العملات الرئيسية في الاقتصادات المتقدمة تختلف تماماً عن نظيرتها في الأسواق الناشئة. لا يقتصر الفارق على الحجم بين كلا الفئتين – بل يمتد إلى الاختلاف في النوع. يقودنا هذا إلى الحديث عن متداولي الكاري تريد (تجارة المناقلة) وهي فئة تستهدف الاستفادة من الاختلاف في أسعار الفائدة عن طريق الاقتراض بعملة بلد متقدمة واستخدامها لتمويل الاستثمار في أسواق ناشئة ذات عوائد أعلى. في هذه الحالة لا يوجد غرض آخر لشراء عملة السوق الناشئة سوى الاستفادة من ارتفاع سعر العائد عليها، وبالتالي كلما ارتفع سعر الفائدة كلما زادت جاذبية العملة، ولكن بالطبع ضمن حدود معينة. على سبيل المثال، قد يفضل المستثمر الاستفادة من عائد قدره 8% في تركيا ويتخلى عن عائد أكبر في نيجيريا قد يصل إلى 38% بسبب المخاطر السياسية أو مخاطر الاحتيال أو مصادرة الممتلكات أو الأخطاء المحاسبية أو غيرها من المشكلات سواء الحقيقية أو المتصورة.
يقودنا هذا إلى ملاحظة أن شهية المخاطرة تعمل وفق مقياس متدرج. متداول الكاري تريد هو بحكم التعريف مضارب يبحث عن عائد أعلى من العائد الذي يمكن أن يحققه في موطنه وبالتالي يصبح مستعداً لتحمل مخاطر أكبر للحصول على هذا العائد، بما في ذلك مخاطر انخفاض قيمة استثماراته بالعملة الأجنبية والتي قد تؤدي إلى محو ميزة ارتفاع العائد. في الأوقات التي تشهد هدوء نسبي، ترتفع شهية المخاطرة وبالتالي يزداد تدفق رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة والتي تمولها عملات منخفضة التكلفة مثل الدولار الأمريكي أو الفرنك السويسري أو الين الياباني.
ومن المفارقات أن تدفقات رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة يصاحبها عادةً تأثيرات ضارة حيث تؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة، وليس انخفاضها، بحسب ما تقتضيه نظرية تعادل أسعار الفائدة. على سبيل المثال، عانت البرازيل بشدة بعد خفض الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة سعر الفائدة إلى الصفر بسبب تدفق الأموال الساخنة إلى الاقتصاد البرازيلي وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وأيضاً سعر صرف العملة المحلية، ما أضر في نهاية المطاف بالصادرات البرازيلية. استخدم وزير المالية البرازيلي آنذاك مصطلح "حرب العملات" أثناء اجتماع مجموعة العشرين في عام 2010. حقق متداولي الكاري تريد خلال هذه الحقبة مكسب مزدوج عن طريق الاستفادة من ارتفاع العائد وأيضاً ارتفاع قيمة الريال البرازيلي.
تكمن المشكلة الرئيسية في تجارة الكاري تريد في اعتقاد المتداولين بأن أي انخفاض في قيمة العملة سيكون أقل من العوائد الإضافية التي سيحصلون عليها. ولكن لا يسير الأمر على هذا المنوال دائماً، حيث تؤدي فترات الاضطراب المفاجئة، كما حصل إبان الأزمة المالية العالمية 2007-2008 ومرة أخرى في الربع الأول من 2014 خلال الحرب الروسية الأوكرانية بسبب النزاع على إقليم القرم إلى عزوف المستثمرين عن المخاطرة وهو ما أدى إلى انخفاض حاد في قيمة عملات الأسواق الناشئة بالتوازي مع هروب الأموال الساخنة – وذلك حتى في غياب أي تغير في الاختلافات القائمة بين أسعار الفائدة. أيضاً قد يواجه المتداول الذي يقترض بالين الياباني لتمويل استثماراته ارتفاع كبير في قيمة العملة اليابانية والعائد على سنداتها بالتوازي مع عودة الأموال المهاجرة.
توجهات المخاطرة
قد نقبل حقيقة أن العالم مقسم إلى بلدان متطورة ذات معدلات نمو متباطئة وأسعار فائدة منخفضة، ولكن مستقرة، وبين أسواق ناشئة تتمتع بارتفاع معدلات العائد والنمو. برغم ذلك، يمكن أن تحذو إحدى البلدان المتقدمة حذو الأسواق الناشئة إذا ارتفعت توقعات المخاطرة إلى مستويات قصوى. دعنا نأخذ مثال خفض البنك المركزي الأوروبي لسعر الفائدة في مناسبتين مختلفتين. في نوفمبر 2011، قرر المركزي الأوروبي خفض سعر الفائدة ولكن بدلاً من شراء اليورو، كما تفترض نظرية التعادل، لجأ المستثمرون إلى بيع العملة الموحدة. لم يأتي انخفاض قيمة اليورو بسبب قطع سعر الفائدة، كما قد يبدو من الوهلة الأولى، أو حتى بسبب تحوله إلى عملة تمويل لصفقات الكاري تريد (حتى برغم حدوث ذلك في بعض الأحيان)، ولكن كان السبب الحقيقي يتمثل في اتساع المخاوف من أزمة الديون السيادية في البلدان الطرفية. خلال هذه المرحلة شهدت العوائد على سندات البلدان الطرفية ارتفاع هائل مقارنة مع نظريتها على السندات الأمريكية أو الألمانية بسبب رغبة المستثمرون في الحصول على فائدة مرتفعة لتعويض مخاطر انهيار منطقة اليورو والتي كانت تلوح في الأفق خلال تلك الفترة.
دعنا الآن ننظر إلى قرار البنك المركزي الأوروبي بخفض سعر الفائدة مرة أخرى في نوفمبر 2013. خلال تلك الفترة كانت أزمة الديون السيادية قد قاربت على الانتهاء حيث أصبح بمقدور إيرلندا العودة إلى سوق السندات العامة بالتوازي مع ارتفاع الطلب وانخفاض الفائدة. كما نجحت البرتغال وإسبانيا وإيطاليا في إصدار سنداتها الخاصة دون مشاكل وبأسعار فائدة معقولة وهو الأمر الذي لم يكن متاحاً لسنوات طويلة. كانت جميع وسائل الإعلام العالمية تتحدث آنذاك عن انتهاء أزمة الديون السيادية في البلدان الطرفية ولهذا شهدنا ارتفاع قيمة اليورو حتى برغم خفض البنك المركزي لسعر الفائدة.
تداخلت توجهات المخاطرة بعمق مع نظرية تعادل سعر الفائدة في 2011. أما في 2013، تحققت النظرية بحذافيرها حيث فسرت التوازن بين أسعار الفائدة عبر الحدود. وبالتالي يمكن القول أن تنقيح نظرية تعادل أسعار الفائدة عن طريق إدماج اعتبارات المخاطرة سيؤدي إلى تحسين نتائج النظرية وإكسابها قدر أكبر من المصداقية. ولكن كما هو الحال مع الحالات الأخرى، يظل الافتراض ببقاء كافة العوامل الأخرى على حالها أمراً محورياً حتى برغم صعوبة تحققه.
التضخم
بدأنا هذه المقالة بالحديث عن التضخم في حالة تعادل القوى الشرائية والقول بأنها ستؤدي إلى انخفاض قيمة العملة. يعزى ذلك إلى أن أي شخص، سواء كان مستثمر أو مستهلك، لن يرغب في الاحتفاظ بأصول تتناقص قيمتها. سيهرول المستثمرون إلى إنفاق العملات منخفضة القيمة، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الانخفاض، كما سيلجأ المستثمرون إلى الخروج من صفقاتهم الشرائية على تلك العملة بحثاً عن عوائد "حقيقية" أعلى بعد استبعاد التضخم.
دعونا نتعرض الآن إلى النظرية النقدية للاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان والتي تؤكد على أن التضخم هو ظاهرة نقدية. يبني فريدمان افتراضاته على أفكار إيرفينج فيشر وهو أستاذ اقتصاد في جامعة شيكاغو كان يرى أن المعروض النقدي مضروباً في معدل دوران النقود سيساوي الناتج المحلي الإجمالي مضروباً في معدل التضخم. خلاصة هذا الافتراض ترى بأن ارتفاع المعروض النقدي في الاقتصاد سوف يؤدي إلى ارتفاع التضخم. بعد أن حظيت النظرية النقدية بقبول واسع خلال عقد الستينات، ظلت الأسواق المالية لعقود طويلة تراقب التضخم باعتباره المؤشر الرئيسي للتنبؤ بقرارات الفائدة التي تتخذها البنوك المركزية. تعززت هذه الرؤية خلال ولاية بول فولكر كرئيس للاحتياطي الفيدرالي بين عامي 1979 و1980، حيث لجأ إلى رفع سعر الفائدة لمرات عديدة بهدف كبح جماح التضخم. ونجحت سياسة فولكر بالفعل في إعادة معدلات التضخم إلى مستويات مقبولة.
منذ ذاك الحين والمحللون الماليون يراقبون عن كثب معدلات التضخم باعتبارها المؤشر الأكثر أهمية للتنبؤ بالقرارات المقبلة للبنوك المركزية. عندما تكون معدلات التضخم منخفضة يصبح الافتراض الأرجح هو إبقاء البنوك المركزية على أسعار الفائدة دون تغيير. أما في حالة ارتفاع التضخم يتوجه التفكير صوب رفع سعر الفائدة. اليوم، ونحن في 2016، لدينا مشكلة معاكسة حيث تنخفض أسعار الفائدة في الوقت الذي تشهد فيه الاقتصادات الرئيسية معدلات تضخم متدنية تصل إلى حد الكساد. وبالتالي يظل الافتراض السائد هو اتخاذ مزيد من إجراءات خفض الفائدة خصوصاً وأنه منذ الأزمة المالية العالمية 2007-2008، لم يخاطر سوى عدد قليل من البلدان المتقدمة برفع سعر الفائدة.
العوامل الأخرى المؤثرة على البنوك المركزية
حين بدأ الاحتياطي الفيدرالي في خفض سعر الفائدة خلال الأزمة المالية العالمية 2007-2008، لم يكن الدافع وراء هذا القرار هو انخفاض التضخم. كان السبب الحقيقي هو التباطؤ الشديد في معدلات النمو وبدرجة دفعت الاقتصاد سريعاً إلى الوقوع في براثن الكساد الكبير. كان من المفترض أن يؤدي خفض أسعار الفائدة إلى إنعاش الاقتصاد ودفع عجلة الإنتاج إلى الدوران مرة أخرى. ولكن في هذا المثال كان السبب في الأزمة هو فشل بعض المؤسسات المالية وما تلاه من انهيار سوق الإسكان في الولايات المتحدة. في أوروبا، لجأت البنوك المركزية إلى خفض سعر الفائدة على الأقل بشكل جزئي نتيجة أزمة الديون السيادية في بعض البلدان الهامشية. برغم ذلك، ستظل بعض البنوك المركزية راغبة في رفع سعر الفائدة لتحجيم المضاربات التي قد تؤدي بدورها إلى فقاعات سعرية في بعض فئات الأصول.
خلاصة القول أن التضخم قد يكون هو المحرك الرئيسي لعملية صنع القرار في البنوك المركزية، ولكنه لن يكون أبداً هو العامل الوحيد. يحتاج متداولي الفوركس عند التنبؤ بنوايا البنك المركزي إلى مراقبة العامل الأكثر أهمية خلال الفترة الحالية سواء كان مرتبطاً بمعدلات البطالة أو أسعار المنازل أو استقرار المؤسسات المالية أو القدرة على سداد الديون السيادية وما إلى ذلك. لهذا السبب أشرنا في بداية هذا الدرس إلى أن متداولي الفوركس يتبعون قائمة متغيرة باستمرار من العوامل الأساسية لا تقتصر على العجز في الميزان التجاري أو التباين في أسعار الفائدة.
يتابع المتداولون أرقام الميزان التجاري ومعدلات التضخم للحصول على نظرة عامة تقريبية حول كيفية تسعير العملة وفق مؤشر تعادل القوى الشرائية، ولكن لن تجد أبداً أي متداول محترف يستخدم هذا المفهوم في وضع صفقاته. يراقب المتداولون التضخم كمؤشر أكثر دلالة على السياسة النقدية للبنك المركزي في المستقبل بالنظر إلى أن رفع الفائدة يؤدي إلى تراجع العملة كعامل توازن. ولكن لا يتحقق هذا التوازن سوى في حالات معينة وحتى في فترات بعينها حيث يتعذر الحصول على بيانات حول اختلاف أسعار الفائدة بسهولة، حتى وإن كان هذا الاختلاف قد يكون هو العامل الثابت والأكثر أهمية في خضم هذا البحر المترامي من البيانات التي تأتي من كل حدب وصوب.